الصادق دهان دهايني متميز
تاريخ التسجيل : 24/02/2009 رقم العضوية : 018 عدد المشاركات : 284 نقاط : 429 العمر : 69 الإقامه : اوكرانيا/كييف الموقع : www.aldhan.com
| موضوع: هلوسات مغترب - كاترين - (1) الخميس مارس 19, 2009 3:05 am | |
| المغترب (1) كانت كاترين وما زالت زرقاء العينين إلى الحد الذي كلما نظرت إليهما تضطر لتحاشي التحديق كي لا يصيبك دوار بحر عيونها الزرقاء ، إن النظر فيهما مباشرة يلحق الضرر ، فكأنك حقا تنظر في دائرة التيه أو (تحملق) في عين شمس منتصف النهار ، ولا تملك إلا أن تمدحها في سرك مبتهلا ،، ما شاء الله ، سبحان الله ،، أقول أن كاترين هذه أوكرانية الجنسية من أم روسية مسلمة وأب عربي ، وعلى جمالها فهي صارمة جادة الملامح ، تجلس عند مدخل مكتب احد الأصدقاء تنظم المواعيد وتستقبل الزوار وترد على الاتصالات ،، وبالقدر الذي في رأسي من شيب الخبرة الإدارية فما رأيت يوما من يسألك عند أول لقاء عن اللغة التي تريد التحدث بها ، إلا هذه المخلوقة الأسطورية فهي تقرأ وتكتب وتطبع وتتحدث خمس لغات هي الروسية والانجليزية والفرنسية والأوكرانية والايطالية والقليل من العربية العامية وهي لم تغادر الأيام الأخيرة من العام السادس والعشرين من سني عمرها بعد ،، تحمل شهادة عليا في المحاسبة وأخرى في الإدارة والعلاقات العامة.
كاترين هذه سعيدة بوظيفتها وكرسيها وسعيدة (بعمو الصادق) لأنها تقول أنه يشبه أباها الذي مات في العراق قبل أن تراه ،، والذي كان لا يكف عن الحديث ، متحمس متزمت ، ولا يلتزم بالمواعيد ولا يمل من العمل ، وينتهج الفوضى في تعامله مع ذاته ، ومن جهتي فان مؤهلات كاترين باستثناء هذه الزرقة المفزعة في عينيها فإنها تكون المبتغى والمراد.
بعد مرافعات واخذ ورد وتدخلات الأصدقاء والمعارف وضغوط والدتها التي تريد لابنتها أن تصلي وتصوم رمضان وتحتشم في لباسها وافقت الرائعة كاترين على العمل تحت إمرتي ضمن مجموعتنا التجارية كمديرة مكتب ومترجمة ،، والحق يقال ما كنا لننجح لولا توفيق الله ورصيدنا من دعوات الوالدين وخلاص النية وجهد (خلاط الفواكه) هذه التي لا تكف عن فعل كل شيء (أنا تقريبا صرت لا أقوم إلا بتوقيع المستندات وترأس الجلسات) وبفضلها أقلعت عن إدمان الاجتماعات (أنا ابن الاجتماعات الطويلة والمؤتمرات) ، فهي لم تترك لي فرصة حتى أن بعض الاجتماعات التي يعد لها شهرا كاملا ،لا يتعدى دوامها العشرين دقيقة ،، غالبا ما يكون نصيبي فيها من الحديث خمس دقائق فقط لأوافق أو ارفض فهنا لا أحد يستخدم (بما أن ، أو باعتبار ، أو لكن ) .
عموما إن مواهب مديرة المكتب أطلقت العنان للحوار معها إلى مداه الأبعد فحفظت بعض سور القرآن الكريم وصامت أول رمضان في حياتها واخترت لها من الأسماء (تلعيز) وعقدت العزم على تعليمها كلمات بالزواري ،، وتفاديا للمشاكل لم اعقد العزم على غير ذلك.
ولكن كاترين التي تتكلم أكثر لغات العالم تعقيدا ،، قالت لي ذات مرة في رمضان ( أمو ساديك) يعني عمو الصادق (Я не могу сказать, доброе утро Balzuari) بالروسية أي ما معناه بالعربي أنه صعب عليها قول (العافيت ادرازق) كل يوم ورجتني رحمة بها أن تقولها مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع ، ووافقت على أن تقولها مرتين في الأسبوع.
حتى كان يوم عيد الفطر ،، وكنت وحيدا ككل يوم ،، في ذلك الصباح الزمهريري تلقيت مكالمتين أولهما من العائلة والأخرى من كاترين لتذكرني بموعد صلاة العيد ،، وكدت أقول لها (تفاسكام اتامباركت) لولا أني خشيت أن تقدم استقالتها ، ولكن وجدتني ادعوها للذهاب معي إلى المركز الإسلامي رفقة أصدقاء عرب.
عيدنا مع الناس وكان المكان بعد صلاة العيد يعج بالرجال من جنسيات مختلفة وأطفال ونساء مستورات يتحدثون لغات مختلفة وتجمع بينهم كلمة لا اله إلا الله وصافحنا الحاضرين من (أجناس وألوان) كل بلغته ،، وأقفلنا عائدين إلى وسط البلد ،، وبدون مقدمات سألتني ( تلعيز) باللغة الانجليزية القحة
(What is the meaning of Alienation in your opinion)أي ما معنى الغربة في رأيك ؟؟ وكان السؤال صعبا في يوم العيد بالذات ، فأردت أن أشتتها ولكنها حاصرتني فقلت هناك أنواع عديدة من الغربة فأي غربة تقصدين - غربة الزمان؟ أم غربة المكان؟ أم غربة الأهل ؟ أم غربة الوطن؟ أم غربة الروح ؟ أم غربة الفكر؟ أم هي غربة المبادئ والقيم ؟ أم هي كل ذلك ؟
توقفت كاترين عن المشي ونظرت إلي قائلة : ماذا قلت (أمو ساديك) ؟ أعد علي ما قلت ، والحقيقة لم اعد ما قلت فقد اختلط على ناظري لون عينيها الأزرق الصافي ولون سماء المدينة الأشهب المنذر بسقوط الثلج ،، بل واصلت المشي قائلا :
لماذا يغتالنا الشعور بالغربة ونحن بين أهلنا وأحبائنا, وعلى أرضنا وفي أوطاننا؟ ،،، إن أصعب غربة هي غربة المشاعر والروح ،، لماذا يجتاح ذلك التصحر الرهيب أعماقنا ويغتال أجمل ما في دواخلنا ؟ ما سر ذلك الجفاف القاسي الذي يغمر أرواحنا ؟ والقلق الصامت الذي يدفعنا للبحث عن شيء لا ندري ما هو؟ لماذا تهفو النفس إلى شيء لا تجده ؟ ويرنو البصر نحو أفق لا نهاية له؟
الكثير الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي تحملها نظرات تمتزج فيها الحيرة بالقلق , ويعشش فيها حزن دفين , وألم قديم متجدد يغتال الكلمات ،،،، وأحسست حينها إني احدث نفسي ،،، لماذا أجرجر وحدتي في كل حشد وأحمل غربتي في كل جمع؟
الغربة هي بعض ذلك أو كله وزيادة ، هي جزء من تكويننا الروحي والنفسي ، تقطن في دواخلنا ، تغيب وتظهر ، وتنمو وتضمر بقدر وعينا وحجم إدراكنا , ومدى قدرتنا على التلاؤم مع الواقع حولنا ، أو انفصالنا عنه وتزيد بقدر محاولتنا السمو بدواتنا ، والعلو بقيمنا ومبادئنا ،، وممارستنا لإنسانيتنا، في عالم أخلد إلى الأرض وانغمس في مادته ومصالحه، وأهدافه وتطلعاته اللاهثة أبدا خلف السراب.
الغربة أن تتحدث بلغة لا يفهمها أحب الخلق لنا, ونتكلم بصوت لا يسمعه أقرب الناس منا. الغربة أن نعيش يومنا دون حلم ننتظره، أو أمل نترقبه، بعدما تبخرت أحلامنا تحت وطأة الواقع كقطرات ندى لامستها أشعة شمس الصباح, وتلاشت آمالنا كسراب لملمته شمس المغيب ورحلت معها.
الغربة يا كاترين (يا بنتي) أن نبحث عن جرعة محبة صادقة لم يكدر صفوها مطامع مادية ، أو مصالح شخصية فلا نجد سوى الجفاف وقحط المشاعر فنطوي على الظمأ .
الغربة يا تلعيز أن نبحث عن حضن دافئ يضمنا بحنان ونشعر عنده بالأمان في لحظات ضعفنا وانكسارنا فلا نلقى إلا لسعة الصقيع جمودا وقسوة.
الغربة يا ابنة الفرات الخالد أن تبحر مراكب صدقنا في خضم بحر لجّي متلاطم من الكذب والزيف.
الغربة يا سليلة أمة عظيمة هدها القهر أن نكون مختلفين في وسط قوالب بشرية متكررة لا تقبل إلا صورتها ، وأن نعيش العمق في زمن السطحية والتفاهة.
الغربة يا بنت سامراء أن نفتش عن دواتنا في كل ما حولنا فلا نرى إلا الفراغ الممتد وأن نبحث عنّا فينا فلا نجدنا في دواخلنا ،، إن الغربة يا حبيبة أن يقيدنا الزمان ونحن خارجه وأن نبحث عنّا فينا فلا نجدنا.
الغربة هي ذلك كله ، أو بعضه ، أو أكثر منه بكثير مما يعتمل في دواخلنا ولا نقوى على البوح به ، أو نجرؤ على الحديث عنه ، تمتد لتغمر عمرنا كله تنخر أعماقنا بصمت ، أو تنخر لتستوطن جزءا خفيا من أرواحنا ومشاعرنا الخاصة ، وفق وعي وإدراك ومصداقية مع النفس فكل منا يحمل بذور غربته في داخله ويعيشها بأسلوبه.
لكن ذلك كله يتلاشى حين تلامس جباهنا الأرض في لحظة سجود مخلصة لله رب العالمين ، ذلك كله يذوب مع كلمة (يا رب) تخرج صادقة من القلب تعانقها نظرات محلقة إلى السماء ،فمع الله وحده نجد الأنس ونشعر بالأمن ونعيش الاطمئنان ، لأننا نعثر على حقيقتنا المفتقدة .
ولم أكن لأنهي كلماتي حتى تدحرجت دمعات حارة مسارعة لتبلل وجهي وتذكرني بالأحباب والأهل والأصدقاء ،، حينها كانت كاترين أو تلعيز التي تعيش الغربة بكل أبعادها تجهش بالبكاء وهي تقبل صورة والدها الذي لم تره قط والتي تحتفظ بها في محفظة نقودها .
عمو الصادق / كييف عام 2007 | |
|